ــ بقلم: محمد أسلامة الدّاهي

“أهدي النص إلى كل أبية وأبي يأنف من وضع ضميره في سلة لعرضه في سوق نخاسة الإنتخابات المغربية الصورية.. إلى كل صحراوي حر يأبى أن يعطي صوته لغير الإستقلال التام ورفع علم الجمهورية على كامل ترابنا الوطني.. مع خالص التقدير والإعتزاز”.

في لحظة ضعف لعنت فقري المدقع، ومعه لعنت الأرض وناسها الطيبين ولعنت الحرية وأمضيت صك بيعي في سوق نخاسة انتخابات الجار المغتصب مقابل “بطاقة إنعاش” قد تملأ بطني أياما معدودات لكنها لن تنعش مروءة تكاد تضيع.

أسير مطأطأ الرأس خجلا وأدعو الله ألاّ أصادف في الطريق أحدا من أبناء جلدتي، فلن يجهد في قراءة حروف الخيانة والغدر التي ترتسم تجاعيدا على وجهي الكئيب. أقترب من مكان صندوق الإقتراع، وأذوب في الجموع التي ترطن بلهجات المغرب الغريبة وأتمنى في قرارة نفسي أن أستحيل كائنا حقيرا غير مرئي.

في جموع المصوتين الغرباء أتعثر ـ أو هكذا خيل لي ـ بجسد الوطن الجريح، والجرح يصبح أخدودا تتراقص عليه هذه الجموع جذلى ومن الجرح النازف تتجرع دما يشبه دمي ودموعا كدموعي، وتتبادل الأنخاب. وأنا كالمغفل بينهم جلبتهم وضجيجهم الذي يصم الآذان وشطحاتهم التي تمزق نياط القلب تحيل ابتسامتي التي جهدت في رسمها قبل الخروج من باب الدار إلى ابتسامة بلهاء. وأتقدم بخطوات مترددة تصطدم بعشرات الصور،  والصور تستحيل رسائل تأنيب؛ هذه أمي التي تركتها للتو مقعدة طريحة الفراش فقد اختطف منها الشلل رونق الحياة ولم يبق غير بريق ينبعث من عينيها هو همزة الوصل بالعالم من حولها. أمي كانت الشاهد الوحيد على ثورة الغضب تلك على الفقر وعلى الحرية والإستقلال وعلى الناس أجمعين، وشهدت لقائي بمندوب إدارة وهو يمنحني وعدا بـ”كارتية إنعاش” مقابل صوتي. والآن هاهي أمي تتبدى لي، وأنا في طريقي نحو صندوق الإقتراع، تلاحقني نظرات عينيها العائميتن في الدمع.. وهاهي صورة رجل ستيني قد لفحته الشمس يقف مصلوب العود عند “الكركرات” ومعه شباب يتبادلون البسمات ويقتسمون كسرة فطير معجونة بطعم تراب الأرض، ويرتشفون في سعادة كؤوس شاي لم تسلم من حصى حملته ريح لا ينقطع هبوبها.. وتلك صورة لعجوز تشد حبال خيمتها تصارع الريح العاتية منذ أربعة عقود.. وهذه صورة شباب في عمر الزهور يتغنون بأمجاد أكديم إزيك من وراء القضبان ونفوسهم العزيزة تحلق فوق سماء المدينة.. ثم أتعثر بصورة شابة تسحلها هذه الجموع ذاتها ـ التي اخترتها للتو ورقة توت تستر عورتي ـ، رأيت هذه الجموع ذاتها تنهال على الفتاة ضربا ولطما، والفتاة تتحداهم  في إباء أسطوري وصرختها تحمل البشرى “استقلال الصحراء آت” والصرخة يتردد صداها في الجهات الأربع.

أشعر بوهن مفاجئ ودوار لا قبل لي به بفعل هذه الصور التي تنثال عليّ سياطا تجلدني دونما رحمة. أتوقف خائر القوى ثم لم ألبث أن جلست ألتقط أنفاسي وأحرص أن أداري وجهي من سوء فعلتي..

تتخطاني جموع الغرباء متجهة نحو صندوق الإنتخاب، وحين تتوارى أقف مجددا، أفتح عيني على اتساعهما ـ كمن استعاد وعيه بعد أن كان في غيبوبة ـ ثم آخذ في هز رأسي بعنف علّي أتخلص من هذه الصور التي تحاصرني. ألفى نفسي تتحدث بصوت مسموع؛ “لا، لن أكون السكين في يد المغتصب والجرح المتمدد في جسد وطني المسجى لم يندمل بعد.. لا، لن أكون عروس كراكوز مغفل تلهو بها أصابع المحتل جذلى وهي تعبث بأهلي وبمصائرهم.. لا، لا.. لا”.

ثم قفلت راجعا وأنا أسرع الخطى. أدلف الدار وأنا أصرخ؛ أمّا.. أمّا.. تتبعني أختي جزعة. أدلف بيت الأم، أقترب منها مترددا بعض الشيء، ثم أرتمي في حضنها مطولا وأغمر وجهي في صدرها الحاني ثم أرفعه لأهمس في أذنها؛ “سامحيني يا أمي فقد آذيتك وأنا أحسبني أحسن صنعا”. أمرر يدي على وجهي ـ كمن يريد أن يطرد كابوسا ثقيلا ـ ثم أهمس في أذنها بفرح جارف؛ “لا تجزعي لم أبع نفسي، لم أمنح صوتي للإحتلال، لا، لا لن أساهم في تشريع الإحتلال”. أتطلع إلى عينيها المغرورقتان بالدمع. شعرت أنها تضمني بعينيها.

ثم أتطلع إلى أختي الواقفة على رأسي وأخاطبها؛ “النجاة حاني انسولك؛ أنت تعرفي تخبزي خبزة لفطير؟” تندهش أختي من السؤال، لكنها ترد بالإيجاب، فأقول لها فيما يشبه الرجاء: “عالم مولانا ألّا راف حالا على كسرة أفطير وأتاي من أيديك… يرحم أيديك ووالديك” ثم أغمض عيني لأجدني جزء من تلك الصور؛  فها أنذا في إحدى الصور أمسح دمعة أمي، وفي صورة ثانية أساعد العجوز التي تشد حبال خيمتها بإصرار في وجه العواصف، وفي ثالثة أجد نفسي أنشد مع “أسود أقديم إزيك” أغاني النصر، وفي أخرى أحيط الشابة الأبيّة بذراعي ليتلقى ظهري ضربات الحقد، وفي صورة أخرى أجد نفسي وسط كوكبة المقاتلين ذاتها عند “الكركرات” أعجن خبزة افطير لن تسلم من طعم التراب، لكنها كسرة معجونة أيضا بطعم الكرامة والحرية.

فتحت عيني مجددا لأهمس ثانية في أذن أمي ممازحا وقد حرصت أن تحمل كلماتي أقصى معاني الجد: “لقد رأيت فيما يرى المسيقظ المتيقظ أن استقلال الصحراء أت”.. ثم أغمضت عيني والنوم يراودني وأنا أشعر بموجة رضى عارم تجتاح كياني كله.

مواضيع من نفس الفئة

مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة مشاورات حول بعثة الأمم المتحدة للإستفتاء في ...

17 أبريل / نيسان 2024

الكيان الصهيوني يُصعد قصف جنوب لبنان ويُقر بإصابة 14 من جنوده في ...

17 أبريل / نيسان 2024

شاهد عيان يكشف انتحار 50 ناجيا صهيونيا من حفل تزامن مع “طوفان ...

17 أبريل / نيسان 2024

الرئيس الجزائري يستقبل رئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية (+ فيديو وصور)

16 أبريل / نيسان 2024