ــ بقلم: الكاتب الصحفي الصحراوي، البشير محمد لحسن، لـ“رأي اليوم”

في السادس عشر من أبريل نيسان سنة 2003 أنشأت سلطة الائتلاف المؤقتة التي شكلها المحتل الأمريكي للعراق ما عُرف بالهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث. و بِلُغةِ الأرقام فإن ذلك القانون استهدف أكثر من 35 ألفاً من إطارات الدولة العراقية المتوسطة والعليا في مختلف القطاعات، انطلاقاً من التعليم، الصحة إلى موظفي الإدارة فالأمن وغيرهم.

ولم تشفع للبلد حاجته لتلك الخبرات بعد تدمير بناه التحتية، قبل اتخاذ مثل ذلك القرار، رغم أن مثل تلك القدرات يتطلب بناؤها من الدول الجهد الجهيد و صرف الاموال الطائلة، بل و هي ثروة لا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط فيها، خاصة في بلد تنهشه الحروب و الطائفية و التدخلات الاجنبية من كل جهة، غير أن كل ذلك لم يتم أخذه في الحسبان، ولا حتى مراعاة دوافع كل تلك الإطارات المجتثة و المقصية في الانضمام للحزب الوحيد المسموح بنشاطه في العراق طيلة عقود. و من المعلوم أن اظهار الولاء لحزب البعث كان شرط أساسي يجب توفره في كل كوادر الدولة بغض النظر عن إيمانهم بمبادئه من عدمه، و من يعارض تلك السياسة يُعرض نفسه للسجن أو النفي في أحسن الاحوال. و كانت خطة الاجتثاث المتفق عليها بين الاحتلال الامريكي و بعض الاطراف التي هيمنت على مفاصل الدولة فيما بعد، تقتضي حسب تصريحات متأخرة أدلى بها الحاكم الامريكي للعراق بول بريمر منتصف سنة 2014، أكد فيها أنه تم الاتفاق على ألا يتعدى الاجتثاث نسبة 1 بالمئة من عناصر البعث و هم قيادات الحزب العليا من اجل المحافظة على البناء الهيكلي للدولة العراقية، إلا أن التنفيذ الطائفي للخطة اتخذ منحى آخر. و نفس الكلام هنا ينطبق على الجيش العراقي، الذي كان يعتبر رابع اقوى جيوش العالم بتعداد يناهز ال 350 الف مقاتل، و يعد هذان القراران من اهم العوامل التي ساهمت بطريقة او بأخرى في تفجر الصراع الطائفي، و شعور شريحة واسعة من الشعب العراقي بالتهميش في عراق ما بعد الاحتلال، و عجلت لاحقاً بظهور تنظيم “الدولة الاسلامية” و الاسباب يطول شرحها.

و بعد صرف مليارات الدولارات تم تشكيل جيش عراقي جديد فاقد لهوية وطنية جامعة مبني على اسس طائفية محضة، منعدم الرغبة في الدفاع ارضه و الموت في سبيلها. و لعل المثال الابرز كان اثناء هجوم تنظيم “الدولة الاسلامية” على مدينة الموصل، ثاني كبرى مدن العراق شهر يونيو 2014. العملية نفذها حسب تقديرات امنية عدد لا يتجاوز ال 500 مقاتل من التنظيم، في المقابل كان يتواجد بالمدينة وقتها ما بين 40 الى 60 الف جندي و رجل امن من مختلف التشكيلات العسكرية و الامنية العراقية، و ما إن وصل مقاتلو التنظيم الى تخوم المدنية حتى انهار الجيش العراقي الجديد، و فر جنوده من المعركة و آثروا النجاة بأنفسهم تاركين مواطني المدينة لمصيرهم المجهول، في قبضة التنظيم.

و بعد ان تخلى الجيش العراقي عن المدنيين و تركهم فريسة صائغة امام مسلحي التنظيم، بدل القتال حتى النهاية انطلاقاً من الواجب الاخلاقي و الوطني للجندية الذي يحتم على منتسبي الجيش حماية الأرض و الدفاع عن الشعب حتى الموت، سيطر التنظيم على المدينة بكل سهولة و يسر و قتل من قتل و هجر من هجر، كما فَرَضَ على الكوادر الادارية، التعليمية، الصحية و حتى الدينية بالمدينة العمل تحت إمرته و في مختلف دواوينه و اداراته و من يتجرأ على رفض ذلك فمصيره القتل و سوء العذاب. و في عملية استعادة الموصل لم يجد الجيش العراقي بداً من الاستعانة بميليشيات “الحشد الشعبي”، و هي فصائل شبه عسكرية مشكلة على اساس طائفي من 42 فصيلاً، من أبرزها “سرايا السلام” المنشقة عن “جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر، و “منظمة بدر” الجناح العسكري، التي تعد اقوى الفصائل، بالإضافة إلى “كتائب حزب الله العراق” و “عصائب أهل الحق” و غيرهم.

و لا تُحاسب تلك الميليشيات في الغالب على الجرائم التي تقترفها، و ذلك بسبب ارتباطها مباشرة برجال الدين المتنفذين في كل مفاصل الدولة، و قدر ارتبط اسم تلك الميليشيات بعمليات التصفية خارج القانون و الابادة على اساس الطائفة، مُكررة بالموصل نفس انتهاكات الفلوجة اواخر شهر يونيو الماضي. فالإعدامات نفسها تتكرر في عملية استعادة الموصل بعد اقدام ميليشيا “الحشد الشعبي” قبل ايام على اعدام خمسة مدنيين جنوب المدينة للاشتباه في صلتهم بتنظيم “الدولة الاسلامية”. كما لم يسلم الاطفال النازحين من المدينة بعد اشتداد المعارك، حيث تداولت العديد من المواقع مقطع فيديو لبعض الاطفال من النازحين يتم التنكيل بهم على يد عناصر تلك الميليشيات. سكان مدينة الرطبة كان لهم ايضاً حظ من تلك الانتهاكات، إذ تعرض المسجد الكبير بالمدينة للتفجير كما تم حرق مساكن بعض المواطنين و ممتلكاتهم. و لا يتم اللجوء الى القضاء لمحاكمة المشتبه في انتمائهم للتنظيم، و لا التحقيق معهم حول شبهة التعاون معه إن صحت، بل بتم اعدامهم حتى و إن كان التنظيم قد ارغمهم على العمل او التعاون معه بأي شكل من الاشكال.

و لم يختر سكان الموصل حكم التنظيم لمدينتهم، بل وجدوا انفسهم بين يديه بعد تخلي القوات الحكومية عنهم و فرار عناصر الجيش للنجاة بجلودهم، و هم اليوم في حالة لا يحسدون عليها، و قد يجبرون على اختيار اخف الضررين، فإما البقاء تحت سلطة التنظيم المتشدد، او الخضوع “للحشد الشعبي” الذي اعلن بعض قادته ان عملية الموصل هي للانتقام لا أكثر، و قد تحمل ايام العملية القادمة مفاجآت أكثر ألماً و قساوة، و معها يجد سكان الموصل انفسهم تماماً كالمستجير من الرمضاء بالنار.

مواضيع من نفس الفئة

العلاقات الجزائرية-الروسية تتجاوز التعاون العسكري

20 يناير / كانون الثاني 2024

ندوة الإعلام.. إستفاقة أم تكريس للفشل؟

31 ديسمبر / كانون الأول 2023

تاريخ حافل بالمتاجرة والمقايضة السياسية المشبهوة.. ماذا تخفي زيارة محمد السادس إلى ...

17 ديسمبر / كانون الأول 2023

من تل أبيب إلى العيون.. الخطوة المقبلة للإستيطان المغربي-اليهودي في الصحراء الغربية

9 نوفمبر / تشرين الثاني 2023