تميزت وسائل الاتصال الحديثة منذ خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا بسمات وخصائص عديدة لعل أبرزها: التفاعلية، اللا جماهيرية أو التفتيت ، اللا تزامنية ،  الشيوع والانتشار، العالمية أو الكونية…والتي جسدتها تكنولوجيات الاتصال والإعلام الحديثة التالية:  الأقمار الصناعية ، و الحاسبات الالكترونية ، ووصلات الميكروويف ، والألياف الضوئية ، التليفزيون الكابلى التفاعلى ، والتليفزيون منخفض القوة ، والفيديو كاسيت ، والفيديوديسك ، وأجهزة التسجيل المطورة ، وخدمات الفيديوتكس ، والتليتكست، والاتصال المباشر بقواعد البيانات ، والتليفونات المحمولة ، والبريد الالكتروني ، و المؤتمرات عن بعد … .

إن هذا التطور سواء في الخصائص والسمات أو الوسائل الاتصالية  أو مضامين( برامج) هذه الوسائل (سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو تربوية أو تعليمية أو اقتصادية  أو رياضية  أو سياسية…) كان له الأثر البالغ على توجهات الجماهير واهتماماتها ، فبعد أن كانت توجهاتهم عامة أصبحت خاصة ، كما أن هذه التطورات المتسارعة في وسائل الاتصال ومضامينها أتاحت للأفراد قدرا كبيرا من التحكم في نوع الوسيلة المستخدمة ، واختيار المضمون الملائم ، ووقت التعرض الملائم ، كما أن البعد الزماني والمكاني أصبح غير مهم  ، فما يحدث في العالم يمكن متابعته في البيت عن طريق التلفزيون أو الإذاعة أو الجرائد أو الانترنيت… . 

      وللوقوف أكثر على التوجهات الجديدة لوسائل الاتصال الحديثة، يأتي مقالنا هذا، محاولين فيه تسليط الضوء على هذه التوجهات، مع إبراز المزايا والعيوب.

أولا-تعريف وسيلة الإتصال:

إن وسيلة الاتصال أو الإعلام هي ما تؤدي به الرسالة الإعلامية أو القناة التي تحمل الرموز التي تحتويها الرسالة، من المرسل إلى المستقبل، ففي أية عملية اتصال يختار المرسل وسيلة لنقل رسالته، إما شفويا أو بواسطة الاتصال الجماهيري (سمعية، بصرية، سمعية-بصرية)، ولكن مع ملاحظة أن الوسيلة ليست هي الآلة أو الجهاز في حد ذاته فقط، ولكنها، تتشخصن في هيكل التواصل كله… بمعنى أن الجـريدة مثلا بدون مطبعة وبدون موزع ليست وسيـلة اتصال(1).

وتعرف وسائل الإتصال أيضا ، فهي كل تقنية أو أداة تصل بين فردين أو أكثر تنقل بموجبها لغة أو رموز أو حركات يفهمها طرفا الاتصال ، المرسل و المستقبل…  إن وسائل الاتصال هي : الوسائل السمعية التي تشمل الكلام المحكي و الأصوات و الموسيقى ، و الوسائل البصرية التي تشمل الصور و الرسوم الجامدة و المتحركة ، و الوسائل النصية و الرقمية ، و لكن إذا انتقلنا إلى التوصيف الجوهري للتقنية الجديدة ، وهذا هو العامل الحاسم ، لوجدنا أن لهذه التقنية ميزة أساسية أصبحت في جوهرها ، وهي إمكانية التعامل الايجابي ( الأخذ و الرد ) ، إي التواصل مع مواد الاتصال الموجودة في برنامج الكمبيوتر المعروض ، وتاليا فان الباحثين المتخصصين يرون أن تسمية ” الوسائل المتعددة” عاجزة عن توصيل المضمون لان فيها تغييبا للعنصر الجوهري(2).

وهناك من يستعمل مفهوم ” وسيلة الاتصال ” بمعنى مزدوج يشمل في آن واحد نظام المعاني أو الرمز الذي يسمح بـ ” فهم ” الوسائل، و الأجهزة التقنية التي تسمح بـ ” بث ” الرسائل ( إرسالها و استقبالها ). وكما هو معروف، فان الفهم والبث شيئان مختلفان لإشارتهما إلى مستويين من الاتصال يحمل ثانيها ( الراديو مثلا ) أولهما )اللغة مثلا ) إي يكون وسيلة له. لكن العكس غير صحيح : لا ترسل الراديو مثلا . و هناك من يشير إلى نوع آخر من الوسائل أو مستوى اتصالي ثالث ليخص به و سائل اتصالية مكانية مثل : المكتبة ، المسرح ، المسجد ، البرلمان … هذه الوسائل ، التي تشير إلى أماكن للاتصال ، ليست رمزية مثل اللغة و لا تقنية اتصالية مثل الراديو بل سوسيولوجية أي تفاعلية أساسا،كما قد يكون لوسائل الاتصال معنى مزدوجا آخر : عندما يشير من جهة إلى البعد التقني الارسالي بطابعه الوسيطي ، المتوسطي أو الوكيلي لوسائل مثل التلفزة ، الراديو ، الصحافة ،الخ . ومن جهة أخرى إلى معنى المحيط ، الوسط أو الجو العام أو المؤسسة الاتصالية ا لتي تندرج ضمنها: الأخبار ، الإعلانات …(3).

ثانيا ـ تاريخ وسائل الاتصال الحديثة:

    خلال القرن التاسع عشر بدأت معالم ثورة الاتصال الرابعة التي اكتمل نموها في النصف الأول من القرن العشرين، فقد شهد القرن التاسع عشر ظهور عدد كبير من وسائل الاتصال استجابة لعلاج بعض المشكلات الناجمة عن الثورة الصناعية.

فقد أدى التوسع في التصنيع إلى زيادة الطلب على المواد الخام، و كذلك التوسع في فتح أسواق جديدة خارج الحدود، كما برزت الحاجة إلى استكشاف أساليب سريعة لتبادل المعلومات التجارية ، وبالتالي أصبحت الأساليب التقليدية للاتصال لا تلبي التطورات الضخمة التي يشهدها المجتمع الصناعي، وقد بذلت محاولات عديدة لاستغلال ظاهرة الكهرباء بعد اكتشافها، وظهر العديد من المخترعات الجديدة نتيجة استغلال الطاقة الكهربائية ، ففي عام 1824 اكتشف العالم الإنجليزي ( وليم سترجون )، الموجات الكهرومغناطيسية، واستطاع( صمويل مورس)، اختراع التلغراف في عام 1937، وابتكر طريقة للكتابة تعتمد على ( النقط و الشرط ) ، وقد تم مد خطوط التلغراف السلكية عبر كل أوروبا و أمريكا و الهند خلال القرن التاسع عشر .

وفي عام 1876 استطاع ( جراهام بل ) أن يخترع التليفون لنقل الصوت الآدمي إلى مسافات بعيدة مستخدما نفس تكنولوجيا التلغراف، إي سريان التيار الكهربائي في الأسلاك النحاسية مستبدلا بمطرقة التلغراف شريحة رقيقة من المعدن تهتز حين تصطدم بها الموجات الصوتية، وتحول الصوت إلى تيار كهربائي يسرى في الأسلاك، وتقوم سماعة التليفون بتحويل هذه الذبذبات الكهربائية إلى إشارات صوتية تحاكى الصوت الأصلي (4).

    وفي عام 1877 اخترع ( توماس إديسون )،جهاز الفونوغراف،ثم تمكن العالم الألماني( إميل برلنجر )، في عام 1887 من ابتكار ( القرص المسطح ) يستخدم في تسجيل الصوت، وبدأ تسويق آلة الفونوغراف منذ عام 1890 كوسيلة شعبية جذابة لتقديم الموسيقى في الأماكن العامة ،  وفي عام 1890 شاهد الجمهور الفرنسي أول العروض السينمائية،ثم أصبحت السينما ناطقة في عام 1928 ، وتمكن العالم الإيطالي( جوجليلمو ماركونى )، من اختراع اللاسلكي في عام 1896،وكانت تلك هي المرة الأولى التي ينتقل فيها الصوت إلى مسافات بعيدة نسبيا بدون استخدام الأسلاك . وكان الألمان و الكنديون أول من بدأ في توجيه خدمات الراديو المنتظمة منذ عام 1919 م، ثم تبعتها الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1920.

  كذلك بدأت تجارب التليفون في الولايات المتحدة منذ أواخر العشرينيات مستفيدة بما سبقها من دراسات و تجارب عملية في مجالات الكهرباء، و التصوير الفوتوغرافي، والاتصالات السلكية واللاسلكية،  وفي أول يوليو 1941 بدأت خدمات التليفزيون التجاري في الولايات المتحدة وفي نهاية عام 1942 بلغ عدد محطات التليفزيون الأمريكية عشر محطات تجارية .

  واكتسبت وسائل الاتصال الجماهيري أهمية كبيرة في القرن العشرين،و خاصة الوسائل الالكترونية باعتبارها قنوات أساسية للمعلومات والأخبار والترفيه، و أصبحت برامج التليفزيون تعكس قيم المجتمع و ثقافاته و أساليب معيشة أفراده، وعكست برامج الراديو اهتمامات الناس و قضاياهم الأساسية ، و قدمت الأفلام السينمائية واقع المجتمع و طموحاته  وخيالاته، وساعدت الإعلانات في تلبية حاجات الناس من السلع والخدمات…، وأصبحت وسائل الاتصال الالكترونية هي النافذة السحرية التي نرى فيها أنفسنا(5).                     

   وشهد النصف الثاني من القرن العشرين أشكالا لتكنولوجيا الاتصال والإعلام والمعلومات ما يتضاءل أمامه كل ما تحقق في عدة قرون سابقة ، ولعل أبرز مظاهر تلك التكنولوجيا هو امتزاج ثلاث ثورات مع بعضها البعض شكّلت ما يسمى  بالثورة التكنولوجية أو الرقمية، وهي ثورة المعلومات المتمثلة في انفجار ضخم في المعرفة، وكمية هائلة من المعارف المتعددة الأشكال و التخصصات و اللغات، ثورة الاتصال وتتجسد في تطور تكنولوجيا الاتصال والإعلام الحديثة بدأ بالاتصالات السلكية مرورا بالتليفزيون و إنتهاء بالأقمار الصناعية والألياف الضوئية، وثورة الحاسبات الالكترونية التي امتدت إلى كافة جوانب الحياة، وامتزجت بكافة وسائل الاتصال، وقد أطلق على هذه المرحلة عدة تسميات أبرزها: مرحلة الاتصال المتعدد الوسائط ، ومرحلة التكنولوجيا الاتصالية التفاعلية ، ومرحلة الوسائط المهجنة ،و مركزاتها الأساسية هي: الحاسبات الالكترونية في جيلها الخامس الذي يتضمن أنظمة الذكاء الاصطناعي والألياف الضوئية، و أشعة الليزر، والأقمار الصناعية (6) .

ثالثا-نظريات تأثير وسائل الإتصال:

1-معني التأثير:

يقصد به ذلك التغيير الذي يطرأ على سلوك المستقبل الرسالة الإعلامية، فقد تلفت الرسالة انتباهه ويدركها، وقد يتعلم منها شيئا، أو أنه قد يغير من اتجاهه النفسي، ويكون اتجاها جديدا، وقد يتصرف بطريقة جديدة أو يعدل من سلوكه القديم (7).

وقد قسم بعض الباحثين التأثيرات إلى تأثيرات ظاهرة، وأخرى كامنة، وتحدث آخرون عن التأثيرات التي يهدف القائم بالاتصال إلى تحقيقها كارتفاع مستوى المعلومات لدى المستقبل، وأخرى لا يهدف إلى تحقيقها كالآثار السلبية غير المقصودة، وقد تكون لنفس الرسالة الإعلامية أهدافا مباشرة أو عاجلة، وأهداف آجلة وفقا لخطة المسؤولين عن تنفيذها وتمويلها وفقا لمستقبلها(8).

وترى جيهان رشتي أنه من الصعوبة دراسة التأثير الإعلامي على الجماهير -وهي بالنسبة إليها منذ أصبحت المشاكل التي تواجه الباحثين في مجال الاتصال- لأنه حسب رأيها ليس في الإمكان دائما دراسة السلوك الذي يحدث نتيجة الاتصـال، لذلك كان من الضروري العمل في مجال المعلومات، أو الاتجاهات، حيث يقيس الباحث استجابة المتلقي اللغوية أو الرمزية، ويحاول أن يخرج منها باستنتاجات عن المعلومات المتلقات، واتجاهاته التي تتأثر أو لم تتأثر، ومعنى ذلك أنه لا يمكن في أحوال كثيرة ملاحظة التأثير بشكل مباشر، وقد يقتنع الباحث بقياس الاستجابة اللغوية، وحينئذ قد يجد نفسه يقيس متغيرات متداخلة معقدة بدون أن يقيس التأثير النهائي(9).

2-نظريات تأثير وسائل الإتصال:

إن معظم وسائل الإعلام تهدف إلى التأثير، فالهدف من أي رسالة أن تعاون على بناء، أو إفهام ظرف ما لشخص آخر، أو التأثير عليه بعمل معين، أو يشعر مشاعر معينة(01).

إن تأثير وسائل الاتصال لا يخرج عن واحد من ثلاث: (11) 

أ-فهي إما أنها تخلق اتجاهات جديدة             

ب-أو تدعم اتجاهات سائدة      

ج- أو تغير اتجاهات سائدة وموجودة.

ويمكن حصر ثلاثة تأثيرات رئيسية للاتصال هي:

أ-تغيير في معلومات المتلقي                   

ب- تغير في اتجاهات المتلقي 

ج- تغير في السلوك العلني أو الظاهر للمتلقي

ويقسم “ملفين ديفلير “و”ساندرا روكيتش” نظريات الاتصال إلى ثلاثة أجيال: (21)

أ-الجيل الأول: عبارة عن التفسيرات الأولية التي بلورت التفكير حول آثار وسائل الاتصال ن مثل النموذج الارتقائي.

ب-الجيل الثاني: النظريات البدائية مثل نظرية الرصاصة السحرية.

ج-الجيل الثالث: النظريات الحديثة المعاصرة التي كانت رد فعل ضد أشكال الجيل الأول.

وتحفل الساحة الغربية (الأوروبية والأمريكية) بالعديد من التيارات والرؤى النظرية، التي توجه بحوث الإعلام والاتصال، فهناك الرؤية الوظيفية البراجماتية التي سادت في الولايات المتحدة خلال أربعة عقود، وما زالت مسيطرة على معظم الباحثين ودارسي الإعلام في دول الجنوب، وعلى الأخص العالم العربي، وتعتمد على المنظـور الإمبريقي المعـزول عن سياقاته الاجتـماعية والثقافية، وترى أن الإعلام هو أداة التحديث في المجتمعات النامية، فيما يرى أنصار التيار النقدي الذي انبثق من التراث النقدي للفكر الاجتماعي الأوروبي، أن سيطرة الإعلام الغربي على وسائل الإعلام في دول الجنوب يعد إحدى أدوات الاستعمار الثقافي الذي يروج لأساليب الحياة، والقيم الغربية، ويحاول فرضها على مجتمعات الجنوب، ويؤكد هذا التيار أن الإعلام يثير إشكالية تتمثل في كونه يلعب دورا مزدوجا سواء على الصعيد الدولي أو المحلي، إذ يمكن أن يعبر عن الهيمنة الكونية للغرب، ويمكن أن يكون وسيلة لإحياء وإنعاش الثقافات القومية في الوقت ذاته، كما يمكن استخدامه أداة للضبط الاجتماعي، وتكريس التبعية الثقافية في دول الجنوب، ويحرص الباحثون المنتمون إلى التيار النقدي على تأكيد الحقيقة التي تشير إلى أنه لا توجد نظرية للاتصال بمعزل عن النظرية الاجتماعية العامة، ولذلك يركز أنصار هذا التيار النقدي على دراسة الظواهر الإعلامية والاتصالية في إطار السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي التي أفرزها وتفاعل معها(31).

وهناك الرؤية الماركسية التي تؤكد على مخاطر سيطرة رأس المال على الإعلام، وهيمنة ثقافة وفكر الطبقات المسيطرة سياسيا واقتصاديا على السياسات والممارسات الإعلامية، بينما يركز أنصار التيار الليبرالي على دور القائمين بالاتصال، باعتبارهم منتجي المادة الإعلامية وحراس البوابات، ويتأثرون بتوجيهات صناع القرار في المؤسسة الحاكمة، ومصالح القوى الاقتصادية المتحكمة في السوق، ويؤثرون بصورة حاسمة في تشكيل اتجاهات وقيم الجمهور والرأي العام، ويعزى هذا الخليط النظري والمنهجي الذي يتميز به حقل الإعلام والاتصال إلى الظروف التي صاحبت نشأته، فقد ظل هذا الحقل حتى بداية الستينات موضع ارتياد وهجرة العديد من الباحثين الذين ينتمون لمختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات (السياسية، علم النفس، علم الاجتماع، اللغويات، التاريخ…)، ولذلك –وكما لاحظ ولبور شرام العام 1980- ظل هذا الحقل مجرد إطار تجمعي للتخصصات المختلفة أكثر منه تخصصا مستقلا له مداخله النظرية وأساليبه المنهجية وأدواته التحليلية وقد ترتب على ذلك عدم ظهور بنية بحثية مستقلة لهذا النوع المعرفي، ولـكن بدأ هذا الوضع يتغير تدريجيا منذ نهاية السبعينات، عندما بدأت حركة المراجعة لهذا التخصص، وقد ساعد اكتشاف نظم الاتصال ذات التأثير المتبادل، واتساع الرقعة الجغرافية للبحوث الإعلامية، وتشابك الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية، على تحرير بحوث الاتصال من هيمنة النظرية الرياضية التي تتمثل في النماذج الهندسية المغلقة، والتي ظلت تحظى بتأثير ملحوظ على امتداد عقود زمنية عدة، كما تركت بصماتها على العديد من التخصصات مثل: علم النفس واللغويات، والاجتماع.

ومن أهم أوجه النقد التي وجهت إلى هذا النموذج الهندسي غلبة الطابع الإجرائي على حساب الجوانب النظرية، مما ترتب عليه استبعاد السياق التي تجري في إطاره العمليات الاتصالية، وانتشار المناهج الكمية التي لا تزال تسيطر حتى اليوم على معظم بحوث الإعلام والاتصال، وذلك بالرغم من تصاعد الاهتمام بالمناهج ذات الطابع التحليلي، والمستندة إلى أطر نظرية، والتوسع في استخدامها في السنوات الأخيرة(41).

وتتعرض بحوث الاتصال في دول الجنوب –وفي قلبها العالم العربي- لأزمة مركبة تتمثل في النقل والاقتباس والتبعية للتيارات الأمبيريقية والوظيفية في دول الشمال المتقدم تكنولوجيا، وذلك استنادا إلى رؤية خاطئة، فحواها أن العلم لا وطن له، وهذه الرؤية قد تنطبق جزئيا على العلوم الطبيعية، ولكنها بالقطع لا تنطبق على العلم الاجتماعي وفروعه، الذي يتأثر بالخصوصية الثقافية لكل مجتمع، فضلا عن اختلاف معدلات التطور الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، علاوة على الأحداث التي حكمت المسيرة التاريخية لكل مجتمع، وحدّدت خلفياته الثقافية ومنظومة القيم والأنماط السلوكية لشعوبه وجماعاته، وهذا الوضع يطرح تحديا أساسيا لمعظم المسلمات النظرية، التي تنطلق منها البحوث الإعلامية العربية ذات الطابع الأمبيريقي التجزيئي، والتفتيتي للظواهر الإعلامية، والتي اعتاد معظم الباحثين الإعلاميين العرب على تناولها بمعزل عن السياق المجتمعي الذي أنتجها وأثر فيها، كما تأثر بها، فضلا عن افتقار هذه البحوث إلى الأطر النظرية التي تفسر المعطيات الأمبيريقية، وتكشف عن التوجهات الأيديولوجية للباحثين… وهنا تثار قضية المسؤولية العلمية والأخلاقية للباحثين الإعلاميين العرب تجاوز هذه الفجوة، من خلال السعي الجاد لتناول التراث العالمي في بحوث الاتصال بمنظور نقدي، فضلا عن ضرورة إعادة النظر في رصد مفردات وإشكاليات بيئتنا الاتصالية والثقافية، والتمييز بين إيجابيات وسلبيات تعميمه، خصوصا في مجال العلوم الاجتماعية، وعلى الأخص حقل الاتصال والصحافة… (51) .

وقد قدم علماء الاتصال والاجتماع والسياسة العديد من النظريات التي تشرح تأثير وسائل الإعلام ، ولكن يصعب استعراض هذه النظريات نظرا لتعددها من ناحية، وتداخلها من ناحية أخرى، وقد يعود تعددها إلى اختلاف تخصصات الباحثين ، وقد يعود تداخلها إلى أنه ما إن تظهر نظرية، وتسود لفترة حتى تظهر نظرية تحل محلها، أو تثير الشكوك حولها، وتدعوا إلى المزيد من البحث والتعمق.

وهناك عدة عوامل ساعدت على ظهور هذه النظريات، فقد عرف الربع الثاني من القرن العشرين تطورا سريعا في ميدان الإعلام سواء من ناحية التقنيات أو من ناحية المضمون أو من ناحية الدراسات المتعلقة به أو من ناحية الجمهور المستهلك، وهذا التطور ناتج عن عوامل عدة نذكر منها أربعة: (61)

أ- انتقال الاهتمام بالإعلام من أوروبا إلى أمريكا وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية.

ب-ظهور وسائل إعلامية جديدة وظهور التنافس بينها.

ج-اهتمام علم الاجتماع بالبحوث الميدانية.

د-ظهور نظرية الإعلام الرياضية ونظرية لازويل: بقيت البحوث الإعلامية مرتبطة بالبحوث السياسية بضع سنوات ثم انفصلت عنها بفضل ظهور نظرية الإعلام الرياضية التي أعطت لها منهجا علميا ما زال الإعلام مدينا له إلى يومنا.

    ولقد اكتشف هذه النظرية سنة 1948 عالمان مهندسان هما: كلود شانون (Claude Shanon) ووارين ويفر   (Waren Weaver)، كانا يعملان بشركة للتلفون في الولايات المتحدة، وقاما ببحوث ودراسات للتوصل إلى تحسين عملية الإرسال السلكي واللاسلكي، فاكتشفا أن هذه العملية تجتاز على مراحل هي نفسها عناصر العملية، وتتكون هذه العناصر من: (مصدر، ومرسل، ومستقبل وهدف)، وهذه المراحل تجعل عملية الاتصال لا تتم في أحسن ظرف فيجب البحث عن الحلول التي تتمحور حول هذه الأسئلة الثلاثة:

كيف يمكن نقل إشارات الاتصال بدقة؟ وهذا السؤال يطرح مشكلة فنية.

ما مدى الدقة التي تنقل بها الرسالة؟ وهذا السؤال يطرح مشكلة دلالة الرسالة.

كيف تفهم الرسالة عند استقبالها؟ وهذا السؤال يطرح مشكلة فاعلية الاتصال.

وخلال هذه الأسئلة يتبين أن الإشارة تنتقل من المصدر إلى المستقبل بعد أن يطرأ عليها تحريف تجعلها أقل وضوحا إذ هي تفقد دقتها إلى درجة أنها تصبح غير مفهومة، فقد دخل في هذه الحالة على الإشارة تشويش، وأصبح المستقبل في حالة عدم التيقن مما وصل إليه.

وانكب شانون وويفر للتغلب على هذا التشويش، وعلى عدم التيقن، واستعمل لذلك حساب الاحتمالات، ووصلا إلى نتيجة أن التغلب على التشويش وعدم التيقن قد يكون بالتكرار، وهذه العملية الحسابية تعرف بنظرية الإعلام (Théorie de l’information).

الشيء الذي يهمنا هنا هو أن المنهج الذي سار عليه العالمان يمكن تطبيقه في عملية الاتصال بالجمهور، وهذا المنهج يتلخص في ثلاثة نقط رئيسية:

تجزئة عملية الاتصال.

التشويش أو التحريف الموجود في عملية الاتصال.

التكرار وسيلة للتغلب على التشويش.

وانطلاقا من هذه المنهجية حاول العالم الأمريكي “لازويل” أن يتوصل إلى منهج علمي لشرح عملية الاتصال بالجمهور، ومعرفة مدى تأثيرها عليه، فجزّأ العملية إلى أجزاء تنطبق مع العناصر التي استخرجها شانون، ووضع هذه الأجزاء في صيغة أسئلة، وهي خمسة: من؟ يقول ماذا؟ بأية وسيلة؟ لمن؟ بأي تأثير؟

فعملية الاتصال تهدف إلى تغيير المواقف بإعطاء معلومات جديدة، والانتقال من حالة جهل الشيء إلى حالة المعرفة به يغير سلوك المستقبل، ويكون ذلك بمثابة بلوغ الهدف، ويقول “لازويل” أن هذا التأثير يقاس بتحليل لموقف المستهلكين لوسائل الإعلام، الأمر الذي أدى إلى انتشار البحوث الميدانية لمعرفة مقياس الاستماع أو القراءة أو المشاهدة.

وهكذا يتولد من نظرية الإعلام الرياضية التي جاء بها “شانون” علم واسع الأطراف هو: سوسيولوجية الإعلام، وتركيزه على البحث الميداني وقد وضع “لازويل” الإطار اللائق بهذا العلم وركز منهجيته بالأسئلة التي طرحها، غير أن “لازويل” يؤكد من جهة أخرى أن عملية الاتصال وإن كانت لا تتجزّأ فهي عملية إجمالية تعبر عن مظهر من مظاهر المجتمع، وهي تقع لا محالة في إطار هيكلي أو في إطار وظائفي.

ويرى “لازويل” أن عملية الاتصال تقوم في جميع الحالات بثلاثة وظائف: وظيفة البحث والتنقيب عن المعلومات، واكتشاف المحيط الذي يعيش فيه المجتمع، ثم وظيفة النشر والتنسيق وتوزيع المعلومات على المجموعة، وأخيرا وظيفة المحافظة على المعلومات وتبليغها جيلا بعد جيل، وهذه الوظائف الثلاثة يقوم بها أخصائيون معنيون لكل وظيفة و… تهدف إلى الحفاظ على المجتمع وعلى كيانه، وهي بهذا تكون ناجحة إذ استطاعت أن تخلق رأيا قويا بتزويده معلومات دقيقة.

ونستطيع أن نقول أن نظرية “لازويل” هي وليدة التطور الكبير الذي عرفه الإعلام بالولايات المتحدة، قد أعطت دفعا قويا للدراسات الإعلامية وللنظريات الإعلامية الجديدة التي سنتعرض لها بالشرح…

وحسب سامية محمد جابر فإن “دفلور Defleur” قام بإجراء تحليل ينصب أساسا على الاتصال الجماهيري، ويصور لنا كيف تطور التفكير الاجتماعي في هذه المسألة، بواسطة تحديد معالم بعض النظريات أو النماذج التي حاولت تفسير آثار الاتصال الجماهيري.

علما بأن كل نموذج لاحق منها يعكس مزيدا من النمو والتطور الذي يتلاءم مع تقدم المعرفة العلمية في العلوم الاجتماعية، ونظرا للأهمية الخاصة التي يمثلها تصنيف “دفلور” للنظريات والنماذج التي اقترحها من سبقه من العلماء والباحثين من أجل تفسير آثار الاتصال الجماهيري، نقول نظرا لأهميتها في مجال العلوم الاجتماعية بوجه عام وعلم الاجتماع بوجه خاص، فسوف نتعرض لها فيما يلي: (71)

أ-نموذج الاستجابة الشرطية البسيطة:

وهو يتلاءم مع وجهات النظر المبكرة حول قوة وسائل الاتصال بصفتها تمارس تأثيرا مباشرا يعتمد على المصدر أكثر مما يتوقف على طبيعة الشخص المستقبل.

ب-نظرية الفروق الفردية:

وقد أضيفت بعض التعديلات البسيطة على هذا النموذج، فانبثقت عنه “نظرية الفروق الفردية” في الاتصال الجماهيري، وهي تهتم اهتماما بالغا بالنظر إلى اختلاف الجمهور، وبذلك تشير إلى أن “الرسالة تحتوي على عدة خصائص منبهة، وأن تلك الخصائص تتفاعل تفاعلا متميزا (differential Interaction ) مع خصائص شخصيات أعضاء الجمهور”، ولذلك فإنها تعتمد على فكرة أساسية بأن الأشخاص المختلفين يميلون إلى أن يستجيبوا بطرق مختلفة تجاه المنبه المركب.

ج-نظرية الفئات الاجتماعية:

وهي تشير إلى أن الجمهور يتدرج تدريجا طبقيا، طبقا لمتغيرات معينة تتصل بالوضع الاجتماعي مثل: المهنة والدين والنوع وما إلى ذلك، ويميل أعضاء كل طبقة من هذه الطبقات أو كل فئة منها انتقاء مضمون متشابه ضمن المضامين التي تبثها وسائل الاتصال، كما يستجيبون نحوه بطرق متساوية أو متطابقة إلى أبعد الحدود.

د-نظرية العلاقات الاجتماعية:

وهي التي قامت بالاعتماد على نتائج الدراسات السيكولوجية الاجتماعية التي أجريت على الجماعات الاجتماعية، والتأثير الشخصي بواسطة كل من “كاتز” و”لازارسفيلد” في الأربعينيات والخمسينيات ثم أطلقت عليها هذه التسمية المذكورة، وأما الفكرة الأساسية التي تنطوي عليها هذه النظرية فهي أن: “العلاقات الاجتماعية غير الرسمية تلعب دورا أساسيا في تحديد وتشكيل الطريقة التي يستجيب بها أي فرد اتجاه الرسالة التي تصل إليه (وتجذب انتباهه) عن طريق إحدى وسائل الاتصال الجماهيري”.

ه-نظرية المعايير الثقافية:

وهي التي تشير إلى أن وسـائل الاتصال تخلق -من خـلال ما تقوم بعرضه عرضا انتقائيا وما تؤكد عليه من موضوعات بعينها- انطباعات معينة لدى جماهيرها بأن هناك معايير ثقافية عامة تتصل بالموضوعات التي تؤكد عليها، وأن هذه المعايير تقنن وتحدد بطرق خاصة، ومن أجل هذا فإن السلوك الفردي غالبا ما يسترشد بهذه المعايير الثقافية. معنى ذلك أن وسائل الاتصال عندما تصور بعض الانطباعات المتصلة بنوعية المـعايير التي تحـكم موضوعا معينا أو وضع بالذات، فإنها تعمل – بطريقة غير مباشرة – على التأثير في السلوك.

رابعا – تصنيفات وسائل الاتصال :

     تكثر التصنيفات التي يمكن من خلالها تصنيف وسائل الإعلام، فثمة الإعلام المطبوع و الإعلام المسموع والإعلام المرئي وإعلام الوسائط المتعددة ( الانترنت ) ، وهذا التقسيم يعتمد على التقنيات الرئيسية في الوسيلة الإعلامية.

ويمكن كذلك تصنيف وسائل الإعلام وفق المرجعيات الفكرية أو الإدارية التي تنطلق منها وسائل الإعلام مابين وسائل حكومية رسمية أو شبه رسمية أو قطاع عام أو وسائل خاصة أو أهلية أو خيرية . كذلك يمكن تصنيف وسائل الإعلام حسب موضوعات الاهتمام كالوسائل الإعلامية الرياضية أو الإخبارية أو الفنية أو الأدبية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الطبية أو العسكرية … الخ من التخصصـات . وثمة تقسيم آخر … يقسم وسـائل الإعلام إلى ثلاثـة

أنماط: الإعلام العام أو الشامل، أي الذي يهتم بمختلف الموضوعات وان كان يرتكز على الأحداث السياسية خصوصا، والإعلام المتخصص وهو متفرع إلى عشرات التخصصات، وثمة النمط الآخر و هو الإعلام الجماهيري أو الشعبي الذي يهتم بالقضايا و الأحداث المحلية و القصص و الفنون الشعبية (18)، وهناك تصنيفات أخرى إضافة إلى ما سبق وهي: (19)

– التقسيم الذي يعتمد على البعد التاريخي وتصنف إلى: وسائل قديمة أو تقليديـة

وأخرى حديثة، تشمل الأولى القصيدة الشعرية، الكتاب، المسرح… وهي إما مهجورة أو متجددة، وتشمل الثانية وسائل الاتصال الحديثة من صحف وراديو وتلفزيون وكومبيوتر…

-كما يقسمها آخرون إلى مجموعتين أيضا …حسب درجة الأداء …سريعة الأداء و…بطيئة الأداء

-أما “مارشال ماكلوهان “فيصنفها إلى وسائل باردة مثل السينما والتلفزيون ، وأخرى ساخنة مثل الصحافة والكتب والراديو….

-وقسمها “مولس” إلى :الوسائل الذاتية ،الوسائل الوسيطية ، وسائل الاتصال القريب،وسائل الاتصال البعيد ، الوسائل الباردة ، الوسائل  الساخنة.

-وتقسم الوسائل الاتصالية للعلاقات العامة وفقا لطبيعة الرموز المستخدمة إلى : وسائل الاتصال بالفعل ،وسائل الاتصال غير اللفظي، وسائل الاتصال اللفظي ،وهناك تصنيفات حديثة أخرى لايتسع المجال لعرضها …

خامسا- خصائص و سمات وسائل الاتصال الحديثة :

      هناك جملة من الخصائص تتميز بها تكنولوجيا الاتصال والإعلام الحديثة وهي: (20)

أ-التفاعلية        ب- اللا جماهيرية     ج-اللا تزامنية     ه- قابلية التحرك أو الحركة

و-قابلية التحويل  ز-قابلية التوصيل     ح-الشيوع والانتشار     ط- الكونية.

سادسا-وظائف وسائل الاتصال الحديثة :

1-وظائف وسائل الاتصال للمجتمع :

نستعرض فيما يلي الوظائف التقليدية الأساسية لوسائل الاتصال والإعلام، والوظائف المستحدثة على مستوى المجتمع أو الجماعة: (21)

أ-الوظيفة الإعلامية أو الإخبارية  ب-وظيفة التنشئة الاجتماعية   ج-وظيفة خلق الدوافع                 

د-وظيفة الحوار والنقاش        هـ-وظيفة التربية والتعليم    و-وظيفة النهوض الثقافي

ز-الوظيفة الترفيهية             ح-وظيفة التكافل             ط-تلبية الحاجات التجارية

و الإرشادية المتنوعة     ي-الإعلام لأجل تحقيق الهوية    ك-الوظيفة السياسية للإعلام 

2-الحاجات والوظائف التي تلبيها وسائل الاتصال والإعلام للفرد:

وهي على النحو التالي : (22)

أ-مراقبة البيئة أو إلتماس المعلومات                ب-تطوير مفاهيمنا عن الذات      

ج-تسهيل التفاعل الاجتماعي        د-بديل للتفاعل الاجتماعي     هـ-التحرر العاطفي –في حدوث الضوابط الشرعية-          و-المساعدة في الهروب من التوتر والإغتراب     ز-خلق طقوس يومية تمنحننا الإحساس بالنظام والأمن.                        

سابعا- وسائل الاتصال الحديثة من التوجه الجماهيري إلى التوجه الفردي :

        إن للاتصال بعدا حاسما في الحياة الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة ، ولذلك نجد أن من أهم التعاريف التي خصت هـذه المجتمعات تلك التي جعلت منها” قرية عالمية”(ماكلوهان)  تتميز بالشمولية والانسجام ، وتلعب فيها تكنولوجيات الاتصال الحديثة دورا أساسيا موجهـا ، أو “مدينــة عالميـة ” و” مجتمعـا تكنوترونيـا ”             -تكنولوجيا/إلكترونيا-(ز.برونسكي) شاملا ، ولكنه أقل انسجام  (مدني ، وليس قروي)، تسوده علاقات وظيفية متبادلة،أو “عمارة ضخمة “(ر.بلاك) تضم عشرات الشقق السكنية، يعيش سكانها في غربة عن بعضهم البعض ، وقبل ذلك مجتمعا ” ما بعد صناعي ” أو مجتمعا “إعلاميا” توقعه (دانييل بل) مع نهاية الستينيـات –القرن الماضي-وخصـه بـ : الخدمات ، التخصص ، المعرفة النظرية ، تكنولوجيا الذكاء ،وتطور تكنولوجيا مستقلة ، وبعد ذلك عالما “وسيليا” أو ” اتصاليا “… (32) .

     وشهدت وسائل الإتصال تغيرات ضخمة في السنوات الماضية ، ويكمن التغير الرئيسي في تأكيد نظم الإتصال على التحول من توزيع الرسائل الجماهيرية إلى الميل إلى تحديد هـذه الرسائل ، وتصنيفها لتلائم جماعات نوعية أكثر تخصصا ، ويصاحب هـذا التحول استخدامات متزايدة لوسائل الاتصال الفردية مثل :التليفون والمسجلات الصوتية والحاسبات الالكترونية ،ويتوقع الكثير من الخبراء أن منزل المستقبل لن يتحول إلى مركز للمعلومات فحسب، وإنما المزيد من المعلومات التي يحبها الفرد، ويختار التعرض إليها في الوقت الذي يناسبه (42).

1-التحول من التجميع إلى التفتيت :

     أتاحت تكنولوجيا الاتصال الحديثة المتمثلة في الأقمار الصناعية ، و الحاسبات الالكترونية ، ووصلات الميكروويف ، والألياف الضوئية عددا كبيرا من خدمات الاتصال خلال العقدين الماضيين مثل التليفزيون الكابلى التفاعلى ، والتليفزيون منخفض القوة ، والفيديو كاسيت ، والفيديوديسك ، وأجهزة التسجيل الموسيقى المطورة ، وخدمات الفيديوتكس ، والتليتكست ، والاتصال المباشر بقواعد البيانات ، والتليفونات المحمولة ، والبريد الالكتروني ، و المؤتمرات عن بعد ، وجميعها وسائل تخاطب الأفراد ، وتلبى حاجاتهم ورغباتهم الذاتية (52) .

     وقد ظل الاتجاه الرئيسى لوسائل الاتصال الجماهيري – حتى عام 1980 تقريبا – يميل نحو المركزية أو توحيد الجماهير بمعنى نقل نفس الرسائل الاتصالية إلى كل الجماهير ، أو توحيد الرسائل وتعدد الجماهير المستقبلة لهذه الرسائل .

أما الاتجاه الجديد للاتصال بعد عام 1980 – في الدول المتقدمة – فقد بدا يتجه نحو لا مركزية الاتصال ، أو تفتيت الجماهير بمعنى تقديم رسائل متعددة تلائم الأفراد أو الجماعات الصغيرة المتخصصة ، ويتخذ هذا التفتيت للرسائل مظهرين : المظهر الأول يتحكم فيه المرسل ، والمظهر الثاني يتحكم فيه المستقبل ، ويمكن إتاحة كل منهما عن طريق الربط بالحاسبات الالكترونية لتوفير خدمات مختلفة من الاتصال تبدأ من إتاحة الصحافة المطبوعة ، أو نقل النصوص المكتوبة ، وتمتد إلى شكل البرامج التليفزيونية ، والأفلام السينمائية ، ويمكن نقل هذه المعلومات عبر مسافات شاسعة عن طريق استخدام الاتصال الكابلى و الأقمار الصناعية (62) .

      وتتميز المضامين في الإعلام الجديد بمحليتها وهذه ميزة قد لاتستطيع وسائل الإعلام التقليدية الحصول عليها بسبب الطبيعة الرسمية لعملها وضرورة حصول مراسليها على تصاريح رسمية للوصول إلى العديد من المناطق . وعادة ما تنشر هذه المضامين بشكل فوري على المدونات (دون مراجعة أو تدقيق كما في وسائل الإعلام التقليدية وبلغة اقرب إلى الفرد العادي ) بالاستعانة مع مواقع أخرى كاليوتيوب و فليكر و تويتر .

وفي العديد من الأمثلة تستعين وسائل الإعلام التقليدية بمعلومات وصور وملفات الفيديو التي يتمكن الإعلامي المواطن من الحصول عليها ، ومع إدراك المؤسسات الإعلامية لأهمية الإعلام الجديد سواء من الناحية الإعلامية أو الترويجية أو حتى التجارية ، أطلقت العديد من هذه المؤسسات مواقع إخبارية تتميز بمضمونها المهني الملتزم بالمعايير المتعارف عليها .

   إن الفرق الشاسع بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد والتغيير الذي طرا على علاقة الأفراد بهذه الوسائل وتحولهم من ” جمهور ” إلى ” مستخدمين ” للوسائل الإعلامية، فقد انتقل الفرد من مجرد التلقي المتمثل بالقراءة و المشاهدة و الاستماع ومن ثم التأويل الصامت إلى استخدام المضامين الإعلامية عبر الإعلام الجديد من خلال التعليق و التقييم و التأليف و الطباعة و الإرسال… و النسخ و اللصق و التصنيف. كما انتقل الفرد من تلقي المضامين المحدودة إلى استخدام المضامين المتنوعة التي يذهب هو إليها و لا تأتي إليه. و هكذا يصبح للمستخدم خيار وإرادة تدفعه إلى التفاعل مع ما يشاء من المضامين الإعلامية . وقد يقوم بذلك بشكل متزامن فقد يقوم بالاستماع إلى ملف صوتي و الدردشة مع احد الأصدقاء و حفظ ملف فيديو على جهازه في نفس اللحظة (72).

2- التحول من مخاطبة الجماهير إلى مخاطبة الأفراد:

         اتخذ تحول وسائل الاتصال الجماهيري من التوجه نحو الجماهير العريضة إلى التوجه نحو الجماعات الصغيرة و الأفراد عدة مظاهر ، ومن ابرز مظاهر هذا التحول في خدمات الاتصال ظهور التليفزيون الكابلى التفاعلي ، و انتشار محطات التليفزيون ذات القوة المنخفضة ، و ظهور أجهزة التليفزيون الترانزستور التي حولت المشاهدة إلى عملية ذاتية تماما ، و ظهور خدمات الراديو ذات النطاق الضيق بدلا من الإذاعات العامة ، و التوسع في الخدمات التي تلبي حاجات الأفراد ، وتزيد من قدرتهم على الاختيار من بدائل كثيرة مثل الفيديو كاسيت ، والفيديو تكس ، والفيديو ديسك ، والتليتكست ، والاتصال المباشر بقواعد البيانات ، والعاب الفيديو ، والبريد الالكتروني(82).

3-المزايا المحتملة لتفتيت الاتصال :

     هناك ميزتان أساسيتان لتفتيت الاتصال هما: (92)

أولا – فيما يتعلق بالمستهلكين لوسائل الاتصال ، سوف يتاح للأفراد سيطرة اكبر على ما يتعرضون له من معلومات و برامج ، وسوف يكون الفرد قادرا على خلق الصحف والمجالات التي تحتوى على المواد التي يرغب في قراءتها ، وبكل التفاصيل المطلوبة ، وسيكون لديه القدرة على الحصول على كل مواد الترفيه التي يرغب فيها ، وفي الأوقات المناسبة له تماما .

ثانيا – فيما يتعلق بالقائم بالاتصال أو المعلن، سيكون لديه القدرة على تحديد طبيعة الجمهور المستهدف بسهولة، والتعرف على خصائص هذا الجمهور، وجذب اهتمامه من خلال تلبية رغباته و احتياجاته.

4-العيوب المحتملة لتفتيت الاتصال:

     رغم أن تفتيت الاتصال يتيح للأفراد قدرا كبيرا من التحكم في نوع الوسيلة المستخدمة ، واختيار المضمون الملائم سواء المقروء أو المسموع أو المرئي ، إلا أن تفتيت الاتصال ولا مركزيته يؤدي إلى بعض المضار سواء للفرد أو المجتمع ، ويمكن إجمال هذه العيوب فيما يلي : (03)

ا-تضييق اهتمامات الأفراد                       

ب-نقص أرباح وسائل الاتصال      

ج-تقليص خبرات الأفراد المشتركة       

د-صعوبة التفاهم والاشتراك في القيم على مستوى المجتمع، وعلى مستوى الأسرة       هـ-انتهاك الخصوصية.

5-خرافة القرية العالمية :

        قبل حوالي أربعين سنة تنبأ” ماكلوهان “بالقرية العالمية ” – في كتابه المنشور عام 1967 بعنوان ” الوسيلة هي الرسالة “- التي توفر فيها الوسائل الالكترونية دفء،وحميمية المجتمع القبلي ،إن الفكرة جذابة ، ولكنها بعيدة عن الواقع ، فقرابة عشر البشرية فقط ينتج ويعالج المعلومات ، أي أن تسع أعشار العالم يستمع للنشاط الإلكتروني المكثف لحوالي خمسة عشرة دولة فقط ، وباللغة الانجليزية أساسا(13) .

6-بعض القضايا التي تثيرها التكنولوجيا الجديدة:

أدى انتشار وسائل التكنولوجيا الجديدة – في المجتمعات المتقدمة – إلى إثارة بعض القضايا التي تهم الأفراد والمجتمعات والحكومات، وهي قضايا قانونية أساسا لم يتم حسمها بعد، وتشمل ما يلي : (32)

أ-قضايا تتعلق بحقوق النشر  ب-قضية المعلومات كملكية خاصة   ج-قضية حماية الخصوصية   د-الخلط الناتج عن سرعة الأخبار  هـ- تنظيم وسائل التكنولوجيا الجديدة

خاتمة:

رغم المزايا العديدة لتفتيت الاتصال والتي منها سيطرة الأفراد على ما يتعرضون له سواء من ناحية البرامج أو الوقت ، والقضاء على سلبية مركزية الاتصال، والتوجه أكثر نحو لا مركزية الاتصال،والاستفادة أكثر من هذه البرامج والحصص كما ونوعا ، إلا أن تفتيت الاتصال له عدة عيوب،لعل أبرزها:تضييق اهتمامات الأفراد،تقليص خبرات الأفراد المشتركة صعوبة التفاهم والاشتراك في القيم على مستوى الأسرة والمجتمع، وأخطر شيء ألا وهو انتهاك خصوصيات الأفراد والجماعات والمجتمعات …          إن ما خلفته وسائل الاتصال الحديثة من آثار سلبية على الأفراد والجماعات كالعزلة الاجتماعية والاغتراب الثقافي والاستلاب الحضاري والأمراض النفسية والجسدية والاجتماعية…، حذا ببعض المختصين والخبراء في الاتصال وعلم الاجتماع وغيرهم من التخصصات الأخرى، الدعوة إلى العودة إلى تكنولوجيا الاتصال القديمة لما لها من دور في تنمية الإحساس بالمشاركة، وتحطيم الحواجز بين البشر، وتباديل الخبرات والآراء… ولكننا مع التصور الذي يجمع بين محاسن التكنولوجيـا الاتصاليـة القديمـة والحديـثة

( الأصالة والمعاصرة ).     

ـ هوامش و مـراجـع:

01-فضيل دليو: مقدمة في وسائل الاتصال الجماهيرية ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر، 1998، ص 49 .

02- عزام محمد أبو الحمام: الإعلام و المجتمع، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان، 2011، ص 19.

03ـ فضيل دليو: تاريخ وسائل الاتصال ، دار أقطاب الفكر، قسنطينة،(ط3)، 2007،ص ص23-24 .

04- حسن عماد مكاوي: تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عصر المعلومات، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الرابعة،2005  ، ص 43 05- المرجع السابق، ص ص 44-45 .

06- محمد الفاتح حمدي ، ومسعود بوسعدية وياسين قرناني : تكنولوجيا الاتصال والإعلام الحديثة ، كنوز الحكمة للنشر و التوزيع ، الجزائر ،2011 ،ص06 .

07- إبراهيم إمام: الإعلام الإذاعي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1985، ص 128.

    08- عبد الله بوجلال: آثار التلفزيون على المشاهدين، مجلة بحوث، جامعة الجزائر، العدد، 02، 1994، ص 128.

09-جيهان رشتي: الأسس العلمية لنظرية الإعلام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1975 ، ص515 .

10-المرجع السابق، ص 526.

11-كامل خورشيد مراد: الاتصـال الجمــاهيري والإعلام(التطور- الخصائص – النظريات )، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ، عمان ، 2011 ، ص 137.

12- المرجع السابق، ص ص 139-140.

13- عواطف عبد الرحمان: العرب… وفجوة العقل الإعلامي، مجلة العربي (شهرية)، مطابع الشروق، القاهرة، العدد 566،يناير 2006، ص126 .

14-المرجع السابق، ص ص 126-128 .

15- المرجع السابق، ص129  .

16- زهير إحدادن: مدخل لعلوم الإعلام والاتصال، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون، الجزائر،2002 ، ص ص67-72 .

17- سامية محمد جابر: الاتصال الجماهيري والمجتمع الحديث: النظرية والتطبيق، دار المعرفة الجامعية، إسكندرية، 1994، ص ص160-162 .

18- عزام محمد أبو الحمام: الإعلام الثقافي ،  دار أسامـة للنشـر والتوزيــع ، عمــان ، 2010، ص ص 37 -38  .

19- فضيل دليو : تاريخ وسائل الاتصال، مرجع سبق ذكره، ص ص 25-29  .

20- يسري خالد إبراهيم: وسائل الإعلام الالكترونية ودورها في الإنماء المعرفي، دار النفائس للنشـــر و التوزيع ، عمان ، 2012 ، ص ص 133 -134.

21- عزام محمد أبو الحمام: الإعلام و المجتمع، مرجع سبق ذكره، ص ص 97-110 .

22-المرجع السابق، ص ص 110-115 .

23- فضيل دليو : تاريخ وسائل الاتصال، مرجع سبق ذكره،ص 168  .

24- حسن عماد مكاوي: مرجع سبق ذكره،ص 241   .

25- المرجع السابق، ص 242.

26-المرجع السابق، ص 243.

27- كامل خورشيد مراد:مرجع سبق ذكره،ص 422.

28- حسن عماد مكاوي: مرجع سبق ذكره، ص 256.

29- المرجع السابق، ص 249.

30-المرجع السابق، ص ص 249-251.

31- فضيل دليو :التكنـولوجيـا الجديـدة للإعـلام والاتصـال ، دار الثقـافـة ، عمـان، 2010 ، ص ص114-115.

32- حسن عماد مكاوي: مرجع سبق ذكره، ص ص 253-255  .