ــ بقلم: إبراهيم داهي

يعيش الحزب الاشتراكي الإسباني هذه الأيام على وقع تراجيديا سقوط حر جراء انقسامات وصراعات داخلية متعددة الأقطاب عصفت بمكانة الحزب على الساحة السياسية المحلية والأوروبية لتضع أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الدور الفاعل المُحَدِّد لهذا الحزب في السياسة الاسبانية الذي طالما تباهى به الاشتراكيون الاسبان.

القراءة الواعية لتمظهرات وخلفيات هذه الأزمة توحي على الرغم من اعتقاد البعض مجرد أزمة أجنحة منقسمة على نفسها، بوجود شرخ كبير يمس التوجهات والخيارات السياسية والأيديولوجية للحزب التي باتت تتكشف حقائقها وخلفياتها شيئا فشيئا للطبقات العمالية الكادحة في إسبانيا بعد التغييرات العميقة في الخريطة السياسية الاسبانية وظهور أحزاب سياسية جديدة خصوصا منها ذات المنحى اليساري، لاسيما ما يُسجل من تداعيات صعود الحزب اليساري الفتي “بوديموس”، حيث أشرت بوضوح إلى تغييرات طالت قواعد اللعبة السياسية بتجاوز الثنائية التقليدية التي ظلت تكرس احتكار السلطة لعقود طويلة.

صعود اليسار الجديد في إسبانيا الذي يصفه الرسميون الإسبان بالراديكالية والشعبوية، أدى إلى إعادة النظر في مفردات السياسة الإسبانية بفرض الانفتاح على قواميس جديدة ناظمة لممارسة السلطة بعيدا عن الثنائية التقليدية الاحتكارية، تعتمد مبادئ التعددية الحقيقية والمشاركة السياسية الواسعة التي برزت بقوة بعد التمركز القوي للحزب اليساري الجديد “بوديموس” في الساحة السياسية الإسبانية.

كانت صدمة الاشتراكيين الإسبان قوية، وذهولهم غير مسبوق، بعد الصعود المدوي لليسار الجديد، لأن ذلك كان إيذانا حقيقيا بمرحلة جديدة تدشن لتراجع وانكفاء الاشتراكي الديمقراطي الذي نعيش هذه الأيام أفول نجمه وترنحه.

في هذا السياق ندرك تبعات وتداعيات الأزمة البنيوية التي باتت تقوض أركان البيت الاشتراكي الذي ظل لعقود يدعي تمثيل الطبقات العمالية الواسعة بآلامها وآمالها؟؟ لقد دأب الحزب الاشتراكي من منطلقات براغماتية صرفة على التساكن والتعايش مع اليمين في إطار لعبة محسوبة لتقاسم السلطة وتبادل الادوار، تُضمر التصدي المشترك لكل محاولات التغيير والعمل على احتوائها تلبية لمصالح داخلية وخارجية تمليها قوانين النظام الرأسمالي النيوليبرالي، فكان بمنظومته الأيديولوجية المبهمة التي ترفع شعار الاشتراكية الديمقراطية الهلامي أقرب إلى التوجهات اليمينية من طموحات العمال والكادحين في إسبانيا.

إن ما يسمى بالاشتراكية الديمقراطية كتيار سياسي وأيديولوجي ظهر في الغرب الرأسمالي خلال ستينيات القرن الماضي كواقع سياسي فكري، عكس جانبا من تجليات الصراعات المتعددة بين النظام الرأسمالي والاشتراكي، وكخطوة استباقية غربية لاحتواء اليسار الاشتراكي الحقيقي الذي دشنته هناك الثورة الطلابية في أوج الفكر الفلسفي اليساري. لذا تناسلت هذه الأحزاب في الساحة الأوروبية بذات الخلفية الأيديولوجية والنزعة الرأسمالية الكامنة، ومنها الحزب الاشتراكي الإسباني المتنكر للقضايا العمالية الجوهرية والمجافي إلى درجة المعاداة لقضايا التحرر الوطني وتقرير المصير وفقا لتوجيهات قادته البارزين، وعلى رأسهم فيليبي كونزاليس الذي لم يخف في أكثر من مناسبة معاداته  لليسار الماركسي.

لم ينحز أو ينخرط يوما ما الاشتراكي الإسباني بشكل كلي في قضايا الشغيلة والكادحين التي يدعي تبنيها إلا بقدر ابتزاز ومساومة اليمين في سياق تقاسم مكتسبات ومنافع السلطة فضلا عن احتواء كل محاولات التغيير والتصدي لها وفقا للأهداف الاستراتيجية المسطرة للحزب، لذا نجد اليوم في إسبانيا الأكثر عداءً والأشد حقدا على اليسار الجديد، هم قادة وزعماء الحزب الاشتراكي أنفسهم وحرسه القديم الذين استشعروا الخطر الداهم بكشف أوراق تآمرهم مع الشركات الرأسمالية الاستراتيجية في هذا البلد ضد طموحات الشغيلة والكادحين.

لا غرابة إذن أن يقود أحد رموز الحرس القديم في الحزب الاشتراكي المدعو فيليبي كونزاليس المعروف بمواقفه الانتهازية وخدمته المتفانية لاستراتيجيات الشركات المتعددة الجنسيات، أوركسترا المسرحية التراجيدية للسقوط الحر لما تبقى من آمال تصحيح المسار في العودة إلى الخيارات الاشتراكية الحقيقية وبالتالي الانضمام إلى صفوف الجماهير العمالية والقوى التقدمية.

إن خلاصة ما نشهده اليوم من صدامات وانقسامات داخل الحزب الاشتراكي الإسباني هي تجلي مأساوي لأكبر عملية إقبار لمحاولات التشبث بالخيارات الحرة التي تختلف أو لا تتناغم مع الخيارات الرسمية، خيارات الشركات الرأسمالية العملاقة ومبادئ النيوليبيرالية المتوحشة.

أخيرا، هل مازال أمام الإشتراكيين الإسبان من نخب ومناضلين متسع للتقويم والإصلاح بعد أن أحكمت قوى الحرس القديم قبضتها على هياكل الحزب، أم أن عملية التطهير من القوى الانتهازية التي يقودها من وراء الستار كونزاليس ذيل الشركات الرأسمالية العملاقة في إسبانيا تمر حتما عبر التحالف مع قوى اليسار التقدمي الحقيقي الذي تقوده كتلة بوديموس؟.

مواضيع من نفس الفئة

رئيس المجلس الدستوري الصحراوي يشارك في دورة لرؤساء المحاكم الدستورية الأفريقية

2 ماي / أيار 2024

إفتتاح أشغال الندوة الإعلامية الأولى للتضامن مع الشعب الصحراوي

2 ماي / أيار 2024

بريطانيا تجدد تأكيد دعمها لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير

2 ماي / أيار 2024

مديرة المخابرات الوطنية الأميركية: الحرب في غزة ستحدد مستقبل المنطقة

2 ماي / أيار 2024