ــ بقلم: حمادي البشير

لم أعرف أبداً أن الدمع هو الإنسان *** أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسانْ ( من قصيدة الحزن لنزار قباني ).

من الحزن ما يتغلغل في الروح ليقتل الجسد، ومن الوجع ما يدمر البدن لينسف الروح ولا خلاف على أن الروح والجسد بنيان يكمل بعضه بعضا والخلل في أي منهما يعطب الإثنين. إن صعود روح الفقيد إلى بارئها أمطرت كل الصحراويين بسحاب  غزير من الأسى والوجع والمفارقة هنا أن هذا السحاب المنهمر من مرارة الفراق يبعث في الجميع نفس جديد للتمسك بالصبر والتعلق بالحياة الكريمة وهو رسالة مغزاها أن نموت ونحن أوفياء لما شُردنا لأجله.

لم أعرفه رحمه الله حق المعرفة، والمصيبة أنني لم أُدرك ذلك إلا عند رحيله. مع صعود روحه إلى مانحها تصاعدت وتيرة معرفتي بجهله وتيقنت أن ماكنت اراه لم يكن إلا واجهة لصفات وخصال أعمق وأكثر مما يمكن لعيون يافعة مثل عيوني أن تدركه، ومحيط هادر من الكمال تعجز روح طائشة مثل روحي أن تلم بشاطئه فكيف أن تسبح في أمواجه.

إن روتين الدوام اليومي ورؤية زملاء العمل بشكل متكرر من الصباح الى المساء له سلبياته وله جنباته المقبولة، والمرارة في هذا المقام أنها تغرس فيك عادة الإدمان التي هي بداية الحب وتعميق القرب، وتكسب منها إعتقادا مخدوعا بأن من تراهم يوميا وتتعلق بهم وتحبهم وتغضب منهم وعليهم وفي النهاية تصبح جزءا منهم بل الأدهى ان يصبحوا جزءا منك، أنهم لن يموتوا ولن يختفوا من حياتك يوما.

كما في الجزء الأول لن يكون حديثي عن مناقب الرجل المعروفة بدون شهادتي ولا شهادة غيري، ولا عن تاريخه الذي سطره بعظمته، ولكنني أفضل ايضا كما في الجزء الأول أن أشارككم بعض المواقف التي عايشتها وانا بقرب المرحوم وأترك لكم تحليلها وإستنباط منها روعة أن يكون الإنسان عظيما، وللتذكير مرة أخرى فهي قطرة من ماء بحر لا ينضب:

• أثناء إنعقاد مؤتمر الإتحاد الوطني للمرأة الصحراوية المنعقد في مدرسة 27 فبرائر، لا أذكر التاريخ، لم تنجح رئيسة المؤتمر في تسيير مضامين الإفتتاح التي كان يشرف عليها قربه الله، وكان ملتزما بموعد بعد مراسيم الافتتاح مع وفد أجنبي هام….. ومع إقتراب وقت الموعد ووفقا لواجبي المهني ذكرته بذلك وقلت له أنه يمكننا التنسيق بهدوء مع رئيسة المؤتمر لتسمح بمغادرة الوفد الرئاسي، وبعد نقاش هامس قال لي بنبرة هادئة: “نحاول دائما وأبدا أن نعطي للأنشطة المتعلقة بالجماهير ما تستحقه من مكانة، إذهب إلى مقر الرئاسة وأفعل ما يجب لضيوفنا ريثما نتمكن من اللحاق بك ….”
• في نهاية محاضرة تاريخية ألقاها تولاه الله برحمته في فعاليات إحدى الجامعات الصيفية في بلدة التفاريتي المحررة وبالضبط عند سفح أقليب آخشاش تناول فيها موضوع نهب المغاربة للثروات الطبيعية، كنا نتمشى بإتجاه موكب السيارات وتفطنت إلى أن هناك من يتبعنا بخطى من له رغبة في اللحاق بنا، وكان شابا يافعا مشاركا في الفعاليات، ووفقا لما يقتضيه عملي إعترضته وسألته عن غايته، فترجاني بإلحاح أن يلتقي المرحوم ففي ذهنه سؤال مهم يريد الإجابة عنه. وعندما أخبرته بالأمر أسكنه الله الجنة إبتسم ودلف راجعا نحو الشاب اليافع، وأحتضنه بحنان وحب وقال له: ” ماهو سؤالك المهم؟” فسأل الشاب ببراءة: ” وفقا لما أخبرتنا به في المحاضرة، هل قاربت ثروتنا السمكية على النفاذ؟ فضحك شمله الله برحمته ضحكة مليئة بالطيبة والابوة والحنان، وقال للشاب: ” عليكم أنتم الشباب تقع مسؤولية حماية تلك الثروات، وإن لم تسارعوا لإنقاذها فستنفذ سريعا ……”
• في لقاء له أدخله الله مدخل صدق مع وفد من منظمة دولية مهمة متخصصة في القانون الدولي وفض النزاعات، تسمى (منتدى البادرة الأولى)، ركز رئيس الوفد الضيف على ما أسماه ( الحياد )، وكثيرا ما سمعته يقدمه ويقاعسه في أثناء لقاءاته، وكرره مرارا في كلمته أمام المرحوم، فقاطعه تغمده الله بنوره بمنتهى الأدب وقال له بنبرة العتاب: ” ترى ما تقصده بالضبط بكلمة الحياد؟ ومهما كان ما تقصده فلا اتفق معك لأن قضية الشعب الصحراوي واضحة مثل الشمس من كل المناحي خاصة الواجهة القانونية التي هي إختصاصكم، وعليه فالحياد الذي تتفاخر به في هذه الحالة يعتبر تقاعسا وجبنا وقد يصل حد التآمر على الحق”….. فبهت الضيف وأختار الصمت وأحال الكلمة لزملاءه وبعد نهاية اللقاء سمعت رئيس الوفد يقول لأعضاء الوفد أنه تلقى في هذا اليوم درسا مهما يتمثل في أنه عليه أن يراجع ويقلب كل مصطلح قبل أن يعتمد عليه ويستخدمه …..
• ذات مساء كنت منكبا على العمل المكتبي، فأطل غفر الله له من الباب وقال لي مبتسما ومازحا: ” سيارتك المحترمة لاتزال تؤدي بشكل جيد، صحيح؟ فقلت له نعم، فأمرني بتهيئتها لمشوار قصير، وكنا وحدنا في السيارة سألته إلى أين فأخذ يهديني إلى مقصده حتى توقفنا بضعة مئات من الأمتار قرب مركز إيواء الجرحى ومعطوبي الحرب، حيث تنتصب خيمة متواضعة لمقاتل من جيش التحرير الشعبي يتولى مهمة رعاية قطيع من الإبل مخصص لفائدة نزلاء المركز، سلم عليه المرحوم سلام صادق وحميم وكأنه يعرفه منذ سنوات، تناولنا معه الشاي وطوال جلستنا كان رحمه الله يمطره بالأسئلة حول أحواله وأحوال قطيعه، ويبدو أنه ضمه الله لجانب الصديقين إكتشف أن أوامره لم تنفذ في الوقت المحدد. وفور إنتهاء جلسة الشاي توجهنا إلى مؤسسة وطنية تفاجأ الموظفين القلائل الذين وجدناهم بحضورنا في المساء، وبعد إلقاء التحية والسلام سأل عن الشاحنة التي كان من المفروض أن تتجه صوب إبل مركز الجرحى فأشار الموظف إليها متوقفة في باحة المؤسسة، سأل غفر الله له عن السائق فقيل له أنه غير موجود حينها قال للموظف المسؤول :” أذكر أنني رايتك تقودها ذات مرة، صحيح؟ فرد نعم، فقال له إركب وأتبعني. ركبنا السيارة وتولى بنفسه رفقتنا تفريغ شحنتها حيث يجب. وفي طريق عودتنا كانت سحنة وجهه تعبر عن الاستياء والتذمر.

خلال سنوات العمل القليلة التي أراد لي الله سبحانه أن اقضيها بقربه لاحظت:

• أن مسحة الحزن والزهد هي الغالبة على روحه تغمده الله برضوانه.
• في الاسفار التي جمعتني به وهي ليست قليلة كان دائما قليل النوم كثير التفكير والإنشغال.
• وأذكر أنني على مر كل تلك الفترة لم أسمع منه كلمة نابئة مهما كان نوعها رغم انني شهدت بعض المواقف التي كان غاضبا فيها.
• لم أراه يضحك من القلب حتى يدمع سوى في مناسبتين متباعدتين على ما أذكر.
• لم أسمعه قط يذكر أي كان بسوء حتى عندما يتمحور الحديث حول المقصرين او المتقاعسين وحتى الأعداء.
• يشهد له الجميع وعلى مر السنوات أنه لم يأمر بعمل إلا وكان أول من يبدأه وكثيرا ما يكون آخر من يرفع يده.

كما أسلفت ولست الوحيد أنني مهما كتبت ومهما قلت فلن أفيه حقه، وبفقده تفقد الكلمات تأثيرها وتصبح عاجزة عن توضيح ما يعتمل في النفس.

أختم هذه الإسهامات التأبينية المحتشمة بتكرار القول أن حياة الرجل العظيم لا يمكن أن تختزل في مقال أو إثنين وأن من فات قطار عمره دون أن يحظى بصحبة المرحوم فقد فاتته عملة لن تتكرر وعزاءنا أن ذكراه لن تمحوها الايام.

مواضيع من نفس الفئة

سذاجة لقجع أم سخرية القدر؟

21 أبريل / نيسان 2024

العلاقات الجزائرية-الروسية تتجاوز التعاون العسكري

20 يناير / كانون الثاني 2024

ندوة الإعلام.. إستفاقة أم تكريس للفشل؟

31 ديسمبر / كانون الأول 2023

تاريخ حافل بالمتاجرة والمقايضة السياسية المشبهوة.. ماذا تخفي زيارة محمد السادس إلى ...

17 ديسمبر / كانون الأول 2023